اعتاد الطبيب غسان الوقوف في غرفة العمليات، لا يتزحزح عنها البتة، فمنذ أن قدم إلى غزة لم يتمكن من النوم إلا هفوات على نقَالات المرضى، فقد كان يصل الليل بالنهار في غرف العمليات. وبينما هو واقف ذات يوم يحضر أحد المرضى لعملية، إذ بالأرض حوله ترتج، وبالغرفة تهتز، وكأن نيزكًا قد وقع على الأرض. عندها ركض الطبيب غسان ومن كان معه بالغرفة ليروا ما الخبر! عندها رأى غسان ما لا يحتمله بشر، ولا يتخيل قبحه عقل، رأى جبالًا من نار تلتهم بحورًا من دماء، رأى خليطًا مرعبًا مزجته نار وقودها دماء بشر، رأى أشلاءً مبعثرة، رأى دمارًا مفزعًا، رأى بشرًا تموت، وجثثًا ترفع نظرها لخالقها شاكية، رأى أطفالًا تبكي، ونساءً تستغيث، رأى رجالًا تسيل منها الدماء كالأنهار، ما رأه لم يكن إلا أقبح وأبشع مشهد قد يعيشه أحد في هذه الدنيا. عندها همّ غسان أن يستفرغ كل ما في بطنه من شدة ما رأى، ربما يكون قد اعتاد على الدماء والجثث بحكم مهنته، لكن لم تكن روحه وعقله ليتقبلا ما يرى، عندها أخذ العجز يدنو من قلبه وعزيمته، والفتور أن يملأ جسمه وركنه، غير أن الله قد كتب له السكينة وألهمه السداد، وعلم أن ليس له هنا إلا أن يعمل، فانكب إلى إسعاف وإنقاذ من استطاع غير مبالٍ بقبح ما يرى. أما القصة فهي ليست من نسج الخيال، وإنها ما وقع في مجزرة مشفى المعمداني، وأما الطبيب فهو الدكتور غسان أبو ستة، شاهد تلك المجزرة. فليكن لنا من الطبيب غسان أسوة، لنعلم كيف يعمل الرجال، فليس الآن وقت التحسر والندم، وإنما الآن وقت العمل لنصرة أهلنا وإخواننا في غزة، ولا تسمح لنفسك أن تقل ما بيدي شيء أفعله، أو تظن ولو للحظة أن ما تفعله شفقة عليهم، فأهل غزة قد فعلوا ما عليهم وأجرهم عند ربهم، وإنما هو امتحان لنا ليرى الله منا الصادق ويعلم المنافق، ألا يكفي أننا سنرى المصطفى يوم القيامة، عندها سيسألنا: لمَ فرّطتم بأمتي وأحبابي؟ أين كنتم؟، فأعد جوابك يا من حسب نفسه في مأمن في الدنيا، فإنه يوم طويل لا ينجو منه إلا صادق. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق